(38)
معنى قول الامام «ع» : لا يكلم الرجل مجذوماً إلا وأن يكون بينهما قدر ذراع وبلفظ آخر قدر رمح .
فتأمل جيداً فى قوله هذا كيف أشار بكلماته القصار إلى خلاصة ما إكتشفه علم القرن العشرين بعد التاسع عشر من الأسرار العجيبة التي إفتخر بها كأنه جاء بشيء جديد في حين أن الامام الصادق «ع» قد أبان عنه قبل 14 قرناً بكل وضوح .
[[ حديث الأهليلجة ( 1 ) ]]
إن هذا الحديث الجليل والكتاب الشريف الذي كتبه الامام الصادق «ع» إلى تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في إثبات التوحيد ، لحديث طويل لا يسعه هذا المختصر ، ولكنا قد إقتطفنا منه جزءاً يسيراً مما هو محل شاهدنا للاستدلال على كامل معرفته «ع» بالعقاقير ومنافعها وأضرارها وأنواعها ومنابتها وطرق إستعمالها بما لم يعرفها أطباء عصره ولم يدركها ذوو الفن من المشتغلين بها على أنه عليه السلام كان قد ذكرها طي كلامه عن التوحيد ولم يقصد بيانها مفصلاً وهذا مما يوضح لكل منصف عارف مالدى الإمام من العلم الكامل بهذا الفن علماً أخذه عن أجداده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوراثة لا عن تعليم معلم أو تدريس أستاذ وإليك ما إقتطفناه منه .
كتب المفضل بن عمر الجعفي إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق «ع» يعلمه أن أقواماً ظهروا من أهل هذه الملة يجحدون بالربوبية ويجادلون على ذلك ويسأله أن يرد على قولهم ليحتج عليهم بما إدعوا به .
فكتب أبوعبدالله «ع» إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد وفقنا الله وإياك لطاعته وأوجب لنا بذلك رضوانه ورحمته . وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملتنا وذلك من قوم أهل
(1) البحار ج 2 ص 75 ط طهران .
( 39 )
الالحاد بالربوبية قد كثرت عدتهم واشتدت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع الرد عليهم والنقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصة والعامة ( إلى أن يقول عليه السلام ) ولعمري ما أتى الجهال من قبل ربهم وأنهم ليرون الدلالات الواضحات والعلامات البينات في خلقهم وما يعاينون في ملكوت السماوات والأرض والصنع العجيب المتقن الدال على الصانع ، ولكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الأهواء على قلوبهم واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المفسدين .
وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتاباً كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الأنكار وذلك أنه :
كان يحضرني طبيب من بلاد الهند وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته فبينما هو يوماً يدق اهليلجه ليخلطها بدواء إحتاج إليه من أدويته إذ عرض له شيء من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من إدعائه أن الدنيا لم تزل ولاتزال شجرة تنبت وأخرى تسقط ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن إنتحال المعرفة لله تعالى دعوى لا بينة لي عليها ولا حجة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والظاهرة والباطنة إنما تعرف بالحواس الخمس . فاخبرني بم تحتج في معرفة ربك الذي تصف قدرته وربوبيته وإنما يعرف القلب الأشياء كلها بالآلات الخمس
إلى آخر ما يسوقه من إعتراض الطبيب وجواب الإمام «ع» من البراهين العقلية والدلائل الحسية التي أفحمته حتى جعلته يقر بالربوبية والوحدانية لله تعالى و قد أعرضنا عنها كلها عدا ما هو الشاهد لنا على إثبات ما للامام «ع» من معرفة خواص الأدوية ومنافع العقاقير ومضارها في عصر لم يدركها فيه غيره حتى الاخصائيين منهم بمعرفتها . وإليك محل الشاهد من الحديث :
( 40 )
قال الامام الصادق «ع» لذلك الطبيب :
فاعطني موثقاً إذا أنا أعطيتك من قبل هذه الاهليلجة التي بيدك وما تدعى من الطب الذي هو صناعتك وصناعة آبائك وأجدادك وما يشابهها من الأدوية لتذعنن للحق ولتنصفن من نفسك . قال : ذلك لك ، قلت : هل كان الناس على حال وهم لا يعرفون الطب ومنافعه من هذه الاهليلجة وأشباهها . قال : نعم ، قلت : فمن أين اهتدوا ؟ قال بالتجربة والمقايسة ، قلت : فكيف خطر على أوهامهم حتى هموا بتجربته ، وكيف ظنوا أنه مصلحة للاجسام وهم لايرون فيه إلا المضرة ، وكيف عرفوا فعزموا على طلب مايعرفون مما لاتدلهم عليه الحواس ؟ قال : بالتجربة ، قلت : إخبرني عن واضع هذا الطب وواصف هذه العقاقير المتفرقة بين المشرق والمغرب هل كان بدمن أن يكون الذي وضع ذلك ودل على هذه العقاقير رجل حكيم من أهل هذه البلدان ؟ قال لابد أن يكون كذلك وأن يكون رجلاً حكيماً وضع ذلك وجمع عليه الحكماء فنظروا في ذلك وفكروا فيه بعقولهم . قلت : كأنك تريد الانصاف من نفسك والوفاء بما أعطيت من ميثاقك فاعلمني كيف عرف الحكيم ذلك ؟ وهبه عرف ما في بلاده من الدواء كالزعفران الذي بأرض فارس مثلاً . أتراه إتبع جميع نبات الأرض فذاقه شجرة شجرة حتى ظهر على جميع ذلك ، وهل يدلك عقلك على ان رجالا حكماء قدروا على ان يتبعوا جميع بلاد فارس ونباتها شجرة شجرة حتى عرفوا ذلك بحواسهم وظهروا على تلك الشجرة التي يكون فيها خلط بعض هذه الأدوية التي لم تدرك حواسهم شيئاً منها ، وهبه أصاب تلك الشجرة بعد بحثه عنها وتتبعه جميع بلاد فارس ونباتها فكيف عرف أنه لا يكون دواء حتى يضم إليه الاهليلج من الهند والمصطكي من الروم والمسك من تبت والدارصين من الصين وخصى بيد ستر من التراك والافيون من مصر والصبر من اليمن والبورق من أرمينية وغير ذلك من أخلاط الأدوية وهي عقاقير مختلفة تكون المنفعة باجتماعها ولا تكون منفعتها في الحالات بغير إجتماع . أم كيف اهتدى لمنابت هذه
( 41 )
الادوية وهي ألوان مختلفة وعقاقير متباينة في بلدان متفرقة ، فمنها عروق ومنها لحاء ومنها ورق ومنها ثمر ومنها عصير ومنها مايع ومنها صمغ ومنها دهن ومنها ما يعصر ويطبخ ومنها ما يعصر ولا يطبخ مما سمى بلغات شتى لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا يصير دواء إلا باجتماعها ومنها مرائر السباع والدواب البرية والبحرية ، وأهل هذه البلدان مع ذلك متعادون مختلفون متفرقون باللغات متغالبون بالمناصبة ومتحاربون بالقتل والسبي أفترى من ذلك الحكيم نتبع هذه البلدان حتى عرف كل لغة وطاف كل وجه وتتبع هذه العقاقير مشرقاً ومغرباً آمناً صحيحاً لايخاف ولا يمرض سليماً لا يعطب حياً لا يموت هاديا لا يضل قاصداً لا يجور حافظا لا ينسى نشيطا لا يمل حتى عرف وقت أزمنتها ومواضع منابتها مع اختلاطها واختلاف صفاتها وتباين ألوانها وتفرق أسمائها ثم وضع مثالها على شبهها وصفتها ، ثم وصف كل شجرة بنباتها وورقها وثمرها وريحها وطعمها أم هل كان لهذا الحكيم بد من أن يتتبع جميع أشجار الدنيا وبقولها وعروقها شجرة شجرة وورقة ورقة شيئاً فشيئا ؟ وهبه وقع على الشجرة التي أراد ، فكيف دلته حواسه على أنها تصلح للدواء والشجر مختلف فمنه الحلو والحامض والمر والمالح فان قلت يستوصف في هذه البلدان ويعمل بالسؤال ، وأنى له أن يسأل عما لم يعاين ولم يدركه بحواسه أم كيف يهتدي إلى من يسأله عن تلك الشجرة وهو يكلمه بغير لسانه وبغير لغته والأشياء كثيرة .
وهبه فعل ، فكيف عرف منافعها ومضارها وتسكينها وتهييجها وباردها وحارها ومرارتها وحراقتها ولينها وشديدها . فلئن قلت بالظن فان ذلك لا يدرك ولا يعرف بالطبايع والحواس ، وإن قلت بالتجربة والشرب فلقد كان ينبغي له أن يموت في أول ما شرب وجرب تلك الأدوية بجهالته بها وقلة معرفته بمنافعها ومضارها وأكثرها السم القاتل . وان قلت بل طاف في كل بلد وأقام في كل أمة يتعلم لغاتهم ويجرب أدويتهم بقتل الأول فالاول منهم ما كان ليبلغ معرفته الدواء الواحد إلا بعد قتل قوم كثير ، فما كان أهل تلك البلدان الذين قتل منهم
( 42 )
ماقتل بتجربته بالذين يتفادون اليه بالقتل ولايدعونه يجاورهم . وهبه تتبع هذا كله وأكثره سم قاتل أن زيد على قدره قتل وان نقص عن قدرة بطل ، وهبه تتبع هذا كله وطاف مشارق الارض ومغاربها وطال عمره فيها بتتبعه شجرة شجرة وبقعة بقعة كيف كان له تتبع مالم يدخل في ذلك من مرارة الطير والسباع ودواب البحر هل كان بد حيث زعمت أن ذلك الحكيم تتبع عقاقير الدنيا شجرة شجرة حتى جمعها كلها فمنها مالا يصلح ولا يكون دواء إلا بالمرار هل كان بد من أن يتتبع جميع طير الدنيا وسباعها ودوابها دابة دابة وطائراً طائراً يقتلها ويجرب مرارها كما بحث في تلك العقاقير على مازعمت بالتجارب ، ولو كان ذلك فكيف بقيت الدواب وتناسلت وليست بمنزلة الشجرة إذا قطعت شجرة نبتت أخرى وهبه أتى على طير الدنيا كيف يصنع بما في البحر من الدواب التي كان ينبغي أن يتتبعها بحراً بحراً ودابة دابة حتى أحاط به كما أحاط بجميع عقاقير الدنيا التي بحث عنها حتى عرفها ، فانك مهما جهلت شيئاً من هذا لاتجهل أن دواب البحر كلها تحت الماء فهل يدلك العقل والحواس على أن هذا يدرك بالبحث والتجارب قال : لقد ضيعت عليّ المذاهب فما أدري بماذا أجيبك .
فقلت سأبرهن لك بغير هذا مما هو أوضح وأبين مما اقتصصت عليك ألست تعلم أن هذه العقاقير التي منها الأدوية والمرار من الطير والسباع لا يكون دواء إلا بعد الاجتماع ؟ قال هو كذلك . قلت : فاخبرني كيف أدركت حواس هذا الحكيم الذي وضع هذه الأدوية مثاقيلها وقراريطها فانك أعلم الناس بذلك لأن صناعتك الطب ، وأنت قد تدخل في الدواء الواحد من اللون الواحد وزن أربعمائة مثقال ومن الآخر ثلاثة أو أربعة مثاقيل وقراريط فما فوق ذلك أو دونه حتى يجيء بقدر واحد معلوم إذا سقيت منه صاحب البطنة بمقدار عقد بطنه ، وإن سقيت صاحب القولنج أكثر من ذلك استطلق بطنه ، والآن فكيف أدركت حواسه على هذا ، أم كيف عرف بحواسه ان الذي يسقى لوجع الرأس لا ينحدر إلى الرجلين والانحدار أهون عليه من الصعود والذي يسقى لوجع
( 43 )
القدمين لا يصعد إلى الرأس وهو أقرب منه ، وكذلك كل دواء يسقى صاحبه لكل عضو لا يأخذ إلا طريقه في العروق التي تسمى له وكل ذلك يصير الى المعدة ومنها يتفرق ، أم كيف لايسفل منه ما صعد ولا يصعد منه ما انحدر؟ أم كيف عرفت الحواس هذا حتى علم أن الذي ينبغي للاذن لا ينفع العين وما تنفع به العين لا يغني من وجع الاذن وكذلك جميع الأعظاء يصير كل دواء منها إلى ذلك العضو الذي ينبغي له بعينه ، فكيف أدركت العقول والحواس هذا ، وهو غائب في الجوف والعروق واللحم وفوق الجلد لايدرك بسمع ولا ببصر ولا بشم ولابلمس ولا بذوق ؟ قال : لقد جئت بما أعرف إلا أننا نقول ان الحكيم الذي وضع هذه الأدوية وأخلاطها كان إذا سقى أحداً شيئاً من هذه الأدوية فمات شق بطنه وتتبع عروقه ونظر مجاري تلك الادوية وأتى المواضع التي تلك الأدوية فيها . قلت : فاخبرني ألست تعلم أن الدواء كله إذا وقع في العروق اختلط بالدم فصار شيئاً واحداً قال: بلى . قلت : أما تعلم أن الانسان إذا خرجت نفسه برد دمه وجمد ؟ قال بلى ، قلت: فكيف عرف ذلك الحكيم دواؤه الذي سقاه المريض بعد أن صار عبيطاً ليس بأمشاج يستدل عليه بلون فيه غير لون الدم ؟ قال : لقد حملتني على مطية صعبة ما حملت على مثلها قط ولقد جئت باشياء لا أقدر على ردها . إلى آخر الحديث الطويل .
فيمضي الإمام «ع» في إستدلاله على إثبات الوحدانية والربوبية من طرق أخرى مفصلة يستدرجها من حديث الاهليلجة التي هي بين يدي الطبيب الهندي ونحن لا حاجة لنا بها في موضوعنا هذا والحديث كله منتشر في كتب الأخبار .
ولقد ظهر لنا ولكل ذي إدراك وإنصاف غير مكابر مما تقدم بعض ما لدى الامام عليه السلام من الاطلاع الواسع والمعرفة الكاملة بخواص الادوية ومنافعها ومضارها بل وكل خاصة فيها مفردة ومركبة مع معرفة منابتها وطباعها دون أن يسند ذلك إلى معلم أو طبيب أخذه منهما بل لم يعرفه كل طبيب أو عقاري في عصره
( 44 )
أوليس ذلك علماً إلهامياً أو وراثياً عن سلفه الطاهرين والذين خصهم الله تعالى به دون ساير الخلق وجعلهم معدنه ومنبعه لانهم هم الراسخون في العلم وهم حاملوا أعباء إرشاده وتعاليمه الحكيمة .
[[ وصفاته الطبية(1) ]]
ليس الامام عليه السلام سوى من اختاره الله بلطفه العام على العباد خلفاً عن النبي الكريم (ص) ليرجع الخلق اليه في جميع مهماتهم ، ويدع الناس نحوه في كل حادث لا يرون منه ملجأ الاّ لديه ، سواءا اكانت تلك المهمة روحية أم بدنية أم دنيوية أم أخروية ، لانه هو الكفيل بارشادهم إلى صالح معادهم ومعاشهم لذلك فقد كانوا يردون على الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام من كل فج وقطر ليسألوه عن مشكلة في الدين أو ملمة في الدنيا فيجدون عنده الجواب الكافي والعلاج الشافي وكثيراً ما كان الوفاد تستشفي بوصفاته النافعة وتستوصفه في كل ما يعتريها من الأسقام والأمراض وهو يجيبهم بما يجدون به الشفاء العاجل والنفع الآجل ، أجل وكيف لا يكون كذلك وهو طبيب النفوس والأرواح وهادي الأمة إلى الصلاح والإصلاح ، وها أني أذكر لك بعض وصفاته الطبية في علاج ما يسأل عنه من الأمراض ، لتعلم أنه عليه السلام الطبيب العالم والإمام المرشد ، وإليك ذلك :
[[ 1ـ الصداع ]]
عن سالم بن إبراهيم عن الديلمي عن داود الرقي قال : حضرت أبا عبدالله الصادق عليه السلام وقد جاء خراساني حاج ، فدخل عليه وسلم وسأله عن شيء من أمر الدين ، فجعل الصادق «ع» يفسره له ، ثم قال له : يا بن رسول الله مازلت شاكياً منذ خرجت من منزلي من وجع الرأس . فقال له «ع» : قم من
(1) أخذنا أغلب هذه الوصفات من الفصول المهمة للحر العاملي وتذكر برمتها في بحار الأنوار ج 14 ص 522 .
( 45 )
ساعتك هذه فادخل الحمام ولا تبتدأن بشيء حتى تصب على رأسك سبعة أكف ماء حار وسم الله تعالى في كل مرة فانك لا تشتكي بعد ذلك منه أبداً ففعل ذلك وبريء من ساعته .
أقول : لا شك أنك لم تجد قبل التأمل في الحديث أي علاقة بين الصداع وصب الماء الحار على الرأس مع البسملة ولكن إذا فكرت وتأملت علمت أن البشر مهما بلغ القمة من العلوم لم يستطع أن يعرف معرفة كاملة علل الأمور وأسباب الحوادث لأنه قد يتصور لحدوث شيء سبباً كان في الواقع غيره وقد لايتصور له علة وهي في الحقيقة موجودة لم يدركها ، وبديهي أن عدم معرفته للسبب ليس معناه أن ليس له علة ولا سبب أو أنه لا علاقة هناك بين الشيء وسببه ، ولعلمت ثانياً أن الأسباب والعلل قسمان مادية جسمية ومعنوية روحية وأن كلاً منهما متعدد فمثلاً هذا الصداع قد يحصل عن ـ إمتلاء المعدة ـ أو سوء الهضم ـ أو الاستبراد أو الزكام ـ أو ضعف الأعصاب ـ أو إضطرابها ـ أو الضغط على الدماغ ـ أو إزعاجه بالأصوات القوية والروائح الحادة ـ أو حرارة الكبد ـ أو من ألم العين أو الأذن ـ أو من بعض الحميات أو الانفلونزا وأمثالها ، كما قد يحصل عن الهم والغم والأرق والخوف أو الفكر الكثير أو أشباهها من النفسيات .
وهنا ليس على الطبيب المعالج إلا أن ينظر إلى السبب فيرفعه وإلى العلة فيزيلها وبهذا يرتفع ويزول المرض ( الصداع) .
ولعل هذا المريض الخراساني الذي يشكو الصداع أدرك الإمام «ع» لصداعه سببين روحي وهو إضطراب فكر وقلق نفسي مع حدوث زكام له في الطريق أو عند أهله كانا هما علة صداعه فعالجه روحياً بذكر البسملة مع إدخال الطمأنينة عليه بانه سيشفى حالاً ويصب الماء الحار المتعدد على الرأس لتحليل المواد الزكامية وهذا مما يصفه أكثر الأطباء للزكام الحادث من إستبراد أو إختلاف الأهوية الواردة على الدماغ وهذا ما لايعرفه إلا الطبيب الروحي الحاذق ، كما انا
( 46 )
لا يجوز أن نقيس على هذا العلاج في غير هذا المريض إلا أن نعرفه أنه مثله ولا يعرفه إلا الطبيب الروحي المادي فتأمل .
[[2ـ الزكام ]]
شكا إليه بعض أصحابه الزكام ، فقال «ع» : صنع من صنع الله ، وجند من جنوده بعثه إلى علتك ليقلعها ، فاذا أردت قلعه فعليك بوزن دانق شونيز ونصف دانق كندس (1) يدق وينفخ في الانف ، فانه يذهب بالزكام ، وإذا أمكنك أن لا تعالجه بشيء فافعل فان فيه منافع كثيرة .
أقول : الزكام هو إلتهاب الغشاء المخاطي الأنفي الحاصل من باشلوس فريد لندر كما عرفه الطب وهو يحصل عن البرد أو الانتقال السريع من محل حار إلى محل بارد أو من ضعف البنية أو من العدوى من شخص آخر مصاب ، وعلاماته وأعراضه هو الشعور بالبرد والقشعريرة وارتشاح الماء من المنخرين مع مادة مخاطية ودمع العينين واحمرارهما وتغير الصوت ومدتها لثلاثة أيام ( دورته) وعلاجه ملازمة البيت والدفء التام خصوصاً في الشتاء مع تقليل الأكل وتناول الأشربة المسخنة ، وقد اعتبرته الأطباء مرضا سارياً معدياً ولكن أخيراً اكتشف بانه ليس هو بنفسه مرض بل هو حدث طبيعي بحركة الاستبراد أو غيره لرفع بعض أمراض الدماغ والرئة والجهاز التنفسي وتنقيتها من الأخلاط والبلاغم وهذا هو المراد بقول الإمام وإذا أمكنك أن لاتعالجه بشيء فافعل كما أن قوله «ع» صنع من صنع الله وجند من جنوده بعثه لعلتك ليقلعها ، إشارة إلى أنه حدث طبيعي لخدمة الأبدان فهو كجند يهجم على الامراض فيخرجها من الدماغ بالترشيح ونزول الدمع قال بعض الأطباء : مساكين اولئك الذين يقابلون هذه الخدمة الطبيعية التي تريد تطهير البدن من الفضولات بالعقاقير غافلين عن
(1) الشونيز هي الحبة السوداء والكندس هو صمغ اللبان .
( 47 )
أن الزكام إذا عولج أعقب أمراضاً كثيرة .
[[ 3ـ ضعف البصر ]]
شكا بعض أصحابه فتاة له ضعف بصرها ، فقال له «ع» : اكحلها بالمر والصبر والكافور أجزاء سواء قال ! فكحلتها فانتفعت به .
أقول : إن ضعف البصر في مثل عمر الفتاة لم يحصل عن ضعف الاعصاب أو قلة النور وإنما يحدث غالباً عن كثرة أمراض العين من رمد أو إلتهابات أو تراخوما أو أشباه ذلك وهذه العوارض ترتفع غالباً بالصبر والمر إذا كان الضعف عن كثرة النزلات والرمد وبالكافور إذا كانت إلتهابات فاذا اجتمعت كحلاً تنفع من الجميع .
[[ 4ـ بياض العين ]]
في طب الأئمة : شكا إلى أبي عبدالله «ع» رجل بياضاً في عينيه فأمره أن يأخذ فلفلاً أبيض ودار فلفل (1) من كل واحد درهمين (2) ونشادر صافي جيد (3) وزن درهم ، فيسحقها كلها ثم ينخلها ويكتحل بها في كل عين ثلاث مراود (4) وإن يصبر عليها ساعة فانه يقطع البياض وينقي لحم العين ، ويسكن الوجع باذن الله تعالى ثم يغسل عينيه بالماء ثم يتبعه بالأثمد إكتحالاً (5) .
(1) الفلفل أبيضه وأسوده حب مدحرج صغار حريف الطعم والدار فلفل هو أول ثمر الفلفل على هيئة أكياس مليئة بحب الفلفل .
(2) وزن طبي أقل من المثقال .
(3) مادة قلوية ذات طعم حاد .
(4) الميل الذي يكتحل به العين .
(5) يسمى الكحل الأصفهاني وهو في معدنه في الجبال يتركب بالحرارة من كبريت وزئبق .
( 48 )
[[5ـ وجع البطن وإسهالها]]
وجاءه رجل فقال له : يابن رسول الله : إن إبنتي ذبلت ، وبها البطن ، فقال له «ع» : وما يمنعك من الأرز مع الشحم ، ثم علمه طريقة طبخه ففعل ذلك كما أمره فشفيت إبنته به .
أقول : معلوم طباً أن الأرز يقبض المعدة يطبخ دون تصفية ويخلط معه الشحم دون تذويب فان السمن مطلقاً وخاصة سمن اللحوم يزيد في الأسهال ولا كذلك الشحم غير المذاب .
[[ 6ـ الاسهال ]]
عن عبد الرحمن بن كثير ، قال : مرضت بالمدينة واطلق بطني ، فقال لي أبوعبدالله «ع» وأمرني أن أخذ سويق الجاورس (1) واشربه بماء الكمون ففعلت فامسك بطني .
[[7ـ قراقر البطن مع الألم ]]
شكا ذريح قراقر في بطنه إليه «ع» فقال له : أتوجعك ؟ قال : نعم فقال له ما يمنعك من الحبة السوداء والعسل ، فاستعمله فنفعه .
أقول : ويكون الاستعمال الحبة مع العسل هو أن تدق الحبة دقاً ناعماً ثم تمزج مع العسل جيداً ، ثم تستعمل يوميا ثلاث مرات صبحا وعصراً وليلاً قدر البندقة .
[[8ـ الرياح الموجعة ]]
كتب جابر بن حسان إلى أبي عبد الله «ع» فقال : يابن رسول الله ، منعتني
(1) الجاورس هو الذرة وسويقها هو ممزوج طحينها مع التمرأو الدبس .
( 49 )
ريح شابكة شبكت بين قرني إلى قدمي ، فادع الله لي . فدعا له وكتب إليه : عليك بسعوط العنبر والزئبق ، تعافى إن شاء الله . ففعل ذلك فعوفي.
أقول : ليس المراد من الرياح الموجعة هي الرياح الهوائية التي إذا دخلت البدن اماتت ( كما زعم بعضهم ) ولكنها الغازات المتجمعة داخل البدن فهي إذا اشتدت وكثرت ولم تجد مخرجاً أوجعت بضغطها وقد توجب الورم باجتماعها ثم أقلقت بالحريق والحكة . فأمره الامام «ع» باستعمال هذا السعوط ليسبب في البدن ولاسيما في الأعصاب الدماغية هزة وارتجاجاً فتنفتح المسام وتتحرك الغازات فتخرج إلى الخارج فيستريح المريض ـ وهكذا فعل فشفي .
[[ 9ـ ضعف البدن ]]
قال له رجل : اني أجد الضعف في بدني . فقال له «ع» : عليك باللبن فانه ينبت اللحم ويشد العظم ، فقال له آخر: أني أكلت لبناً فضرني . فقال له «ع» ما ضرك اللبن ولكنك أكلته مع غيره فضرك الذي أكلته معه فظننت أن ذلك من اللبن .
أقول : المراد من اللبن هنا في قول الامام هو الحليب ، وإن الحليب غذاء كامل حاو لجميع الفيتامينات التي يحتاجها البدن ، لذلك فهو يوافق اكثر الأمزجة . ومن منافع المداومة عليه هي أن يسمن البدن ويقوي القلب والدماغ والنخاع ويفيد الباه مضافاً إلى إصلاحه الصدر وتسكينه للسعال فهو غذاء ودواء لضعف البدن لاسيما إذا كان الضعف من الحرارة أو من أثر السمومات الغذائية وعلى الأخص في دور نقاهة المرضى عموماً .
[[ 10 ـ حمى الربع ]]
عن عبدالله بن بسطام عن كامل عن محمد بن إبراهيم الجعفي عن أبيه ، قال :
( 50 )
دخلت على أبي عبد الله الصادق «ع» فقال لي : مالي أراك شاحب الوجه ؟ قلت إن بي حمى الربع يا سيدي ، فقال عليه السلام : أين أنت عن المبارك الطيب إسحق السكر ، ثم خذه بالماء واشربه على الريق عند الحاجة إلى الماء ، قال : ففعلت ذلك ، فما عادت الحمى بعد .
أقول : حمى الربع هي حمى الملاريا وهي على الأغلب تحدث الشحوب والضعف العام ، وقد وصف له الإمام شرب السكر مع الماء على الريق ومراده السكر الطبيعي لا الصناعي الخالي من كل فيتامين يفيد البدن مثل سكر القصب والسكر الأحمر ومثل العسل الذي جعل الله تعالى فيه الشفاء من كثير من الأدواء كما صرح في القرآن الحكيم ، أما السكر الطبيعي فهو موجود في أكثر الفواكه كالعنب والتمر وأمثالهما مما هي معروفة بايجاد النشاط والقوة والدم الصافي ، فاذا قوى البدن قاوم الحمى حتى ترتفع ، وهكذا فعل المستوصف وشفى .
[[ 11ـ المبطون من الألم ]]
عن خالد بن بخيج قال : شكوت إلى أبي عبد الله «ع» وجع بطني ، فقال لي : خذ الارز فاغسله ثم رضه وخذ منه قدر راحة ( راحة اليد) في كل غذاء ثم قال : أطعموا المبطون خبز الارز ، فما دخل جوف مبطون شيء أنفع منه ، أما أنه يدبغ المعدة ويسل الداء سلاً .
[[ 12 ـ الوضح والبهق ]]
شكا رجل ذلك إلى أبي عبد الله «ع» فقال له : إدخل الحمام وخذ معك الحنا بالنورة وأطل بهما ، فانك لا تعاني بعد ذلك شيئاً ، قال فوالله ما فعلت ذلك غير مرة واحدة ، حتى عافاني الله تعالى .
اقول : إن الوضح والبهق مرضان جلديان كالبقع البيض أو السمر منتشرة
( 51 )
في الجلد دون ألم أو رطوبة ، وقد كان القدماء يعتبرونها عن أسباب داخلية فيعالجونها بالقي والاسهال وتنقية المعدة ويمنعون المصاب عن المآكل الثقيلة والحادة والحريفة ، ولعل وصف الإمام «ع» كان بمقتضى الزمان والمكان أو جهات أخرى لم ندركها وإلا فان مثل هذين المرضين العسرين في العلاج مما يستبعد مداواتهما بهذه الأدوية وهذه السرعة اللهم إلا أن يكون علاجها من ناحية روحية قدسية لا يقدم عليه إلا روحي ذو قدسية كالإمام عليه السلام .
[[ 13ـ البلغم الكثير ]]
قال «ع» : خذ جزء من علك الرومي وجزء من الكندر وجزء من الصعتر وجزء من النانخواه وجزء من الشونيز ، ودق كل واحد على حدة دقاً ناعماً ثم ينخل ويعجن بالعسل ، ويؤخذ منه كل ليلة قدر البندقة ، فانه نافع إنشاء الله .
[[ 14 ـ شدة البول ]]
عن الفضل قال : شكوت إلى أبي عبد الله ، إني ألقي من البول شدة ، فقال «ع» : خذ من الشونيز آخر الليل فأخذت منه مراراً فعوفيت .
[[ 15ـ قلة الولد ]]
شكا عمر بن حسنة الجمال إليه قلة الولد ، فقال له «ع» إستغفر الله وكل البيض والبصل . وعنه من عدم الولد فليأكل البيض وليكثر .
أقول : لقد تقدم قولنا أن الإمام «ع» كان يعالج روحياً وجسمياً وهنا لما أمره بالإستغفار أراد أن يوجهه إلى الله تعالى باطمينان فيطلب منه الولد ثم وصف هذا العقار الذي من خواصه تحليل أرياح مجاري البول والمني وتطيرها من الرطوبات وبذلك تنشط الأعصاب فتجذب المني أكثر ولعل بذلك يحصل
( 52 )
المطلوب . أما البيض فقد ذكر من خواصه زيادة مادة المني وإصلاحها .
[[ 16 ـ ضعف الباه ]]
في طب الأئمة : قال رجل لأبي عبد الله الصادق عليه السلام سيدي إني أشتري الجواري وأحب أن تعلمني شيئاً أتقوى به عليهن ، فقال عليه السلام : خذ البصل الأبيض فقطعه واقله بالزيت ، ثم خذ بيضا وانفذه في ضرف وذر عليه شيئا من الملح ، ثم اكبه على البصل والزيت واقله وكل منه ، فقال الرجل : ففعلته ، فكنت لا أريد منهن شيئا إلا نلته .
إلى كثير من أمثال ذلك مما لا تسعه هذه الرسالة الوجيزة ، وقد إقتصرنا منه على هذا القليل روما للاختصار .
ولكن من المستحسن ذكر شطر مهم من الأدواء التي جاء العلاج لها مرويا عن الإمام الصادق «ع» في طب الأئمة والبحار وغيرهما من كتب الأحاديث والأخبار وهاك نماذج تلكم الأدواء :